العمق الذهني للشخصيات في أعمال عبد العزيز بركة ساكن قصة (امرأة من كمبو كديس) نموذجاً.
كتبها – محمد محي الدين أبوزكو
تمهيد
كنت أقلب مجموعة قديمة من كتبي التي أهداني إياها صديق طفولة، وقعت عيني على المجموعة القصصية (امرأة من كمبو كديس) للرائع عبدالعزيز بركة ساكن.
أذكر جيدا كيف كان يتحدث صديقي عن قصة (امرأة من كمبو كديس) التي عممت على عنوان المجموعة، كان يتحدث بشيء من الإعجاب حول نيل هذه القصة لجائزة bbc القصيرة على مستوى العالم العربي عام 1993م.
في ذلك الوقت قرأتها أكثر من مرة فقط لمجرد قراءة مشهد جلد كلتومة في المحكمة لا أكثر، أما الآن قررت قراءتها مرة أخرى بعد أن قرأت معظم أعماله الحديثة لكن هذه المرة لأجد شيئا لم أجده سابقا.
صراحة ما زلت الاحظ الإبداع السردي الذي يتقنه بركة ساكن في أعماله واستخدامه التعقيد بصورة سهلة وبسيطة في تركيب المفردات بما يتناسب مع النص، لكن هدفي لم يكن السرد الذي اجد نفسي اصغر من فهم تركيبته السرية بل في الوصول إلى التركيب المعقد للذات في إحدى شخصيات هذه القصة.
سنأخذ الراوي مثالا.
بداية بالراوي المشارك الذي ترك لنا بركة ساكن منحه إسما يليق بمخيلتنا، الموظف الذي احيل للصالح العام قبل عامين من احداث القصة.
من خلال السرد أشار لنفسه في أكثر من موقع (بالمثقف) وهو لقب يدعيه ليس إلا، ومن خلال الأحداث نجده مجرد عاطل سكير، يصادق قاضي مرتشي ولا عمل له سوى التجول في السوق حتى حفظ كل أصواته وألف مناخه، هذه الصورة المعقدة التي بينها لن ساكن وتلك التي صدرها لن الراوي من خلال صوته في السرد إضافة لأنها تبرهن على عبقرية الكاتب، تبين لنا مدى واقعية هذه الشخصية ونكاد نعرفها حق المعرفة وأشك أنه قد احيل للصالح العام عطفا على افعاله فمؤكدا تم فصله لإدمانه الخمر وتغيبه المتكرر عن العمل.
ورغم ذلك فهو ليس بالسيء غير المبالي بأحد، فرغم نرجسيته في رؤيته لنفسه وقورا محترما إلا أنه ليس راضيا تماما عن أفعال والده في سرقة التموين والجازولين، هذا لأن مدمنو الخمر لا يتحدثون عن شيء سيئا لا يعجبهم إلا بعد دخولهم مرحلة التغيب الكامل في دهاليز السكر.
وهذا يقودنا لشعوره بالحزن والأسى على كلتومة التي يرى فيها نقيض والده الأمانة والصدق مما يعزز علاقته بها من حيث علاقة السكير وصانع الخمر.
ضف إلى ذلك رأيه في رجال الشرطة حيث يرى أنهم لفقو لكلتومة هذه التهمة لعلمه التام بفسادهم وهم الذين كانوا يخبروها مسبقا في حملة للتفتيش في أمر منافي للقانون، وهذا الرأي أضاف بعدا جديدا للقصة حيث وضع الشخصية والقارئ وجها لوجه بمسار اختلاف في الآراء حيث أن القاري لا يعتقد أن رجال الشرطة قد لفقوا لها هكذا تهمة لأنهم بالأساس زبائن لديها رفقة القاضي السابق وهذا ما أشار اليه الكاتب في موضع آخر حين نفى عن القاضي الجديد إثم شرب العرقي.
التركيب السهل ظاهريا لهذه الشخصية والمنحوت بدقة باطنيا، لم ينتهي إلى هنا، حيث أنه في مشهد الجلد ذكر أن ابتسامة القاضي صفراء وقاسية ويرى بأنه يحاول أن يكون عادلا ومحبوبا وحاسما، هذا الوصف الدقيق لوجهة نظر الشخصية في القاضي إنما يعكس نظرته للنظام ككل، بداية في وضع نفسه محل المظلوم بالإحالة للصالح العام، وفساد القاضي وعساكره بالتساهل مع بائعات الخمور، والقاضي الجديد الذي يتناول الخمر المستورد، وسخطه من والده الموظف الحكومي الذي يسرق التموين والبنزين، هذا السخط المتراكم بداخله ساعده في التعاطف مع بائعة الخمر كلتومة بل وجميع الحاضرين الذين أحسوا بمرارة البصاق الدامي الذي لفظته بعد أربعون جلدة.
والتي ختم الكاتب برد فعلها المفاجئ للقارئ والمثالي لها كأم، حيث كان الظن الغالب هو ثورتها في وجه القاضي بضربة من حذائها البلاستيكي أو شتيمة تخفف من ضربات السوط، كان ختام الكاتب هو تذكيرنا بأن الصغير منتصر ما زال يبكي بين يدي عزيزة في انتظار أن لا تخيب أمه ظنه بها وتفوت عليه رضعة منتصف النهار.
حقيقة هذه القصة لم تنال حظها من التناول في الوقت الراهن من حيث أسلوب بركة ساكن أو عرض الصراع الذهني للشخصيات في هذا الحيز الصغير من حيث قصر النص.
عموما نحتاج لقرائتها أكثر من مرة لنفهم الدرس المستفاد ما يتمخض عن سؤال طرحه الجميع في هذه القصة وهو:
هل الفضيلة مطلب للنهوض بالنفس، أم أن المجتمع لا يتقبل الإلزام بالسلوك الحسن حتى ولو ظل سيئا في قرارة نفسه؟
هذا السؤال لا أعرف له إجابة.
سأترك لكم القصة في أول تعليق، ويمكنكم قراءة كامل المجموعة القصصية فهي تحمل ذات عنوان القصة، ستعثرون عليها على الإنترنت.
محمد محي الدين أبوزكو
اترك تعليقاً